أردت أن أكتب اليوم في موضوع منتشر ويؤثر في مجتمعاتنا، فلم أجد موضوعًا خيرًا من "كسر الخواطر" لطرْقِه والكتابة فيه؛ وذلك لكثرة حدوثه بين الناس، وبشكل شبه يومي في حياتهم العادية، لا سيما في بلادنا الإسلامية، وهو يجلب الحزن للآخرين، إما بقول أو فعل، أو حتى لغة الجسد وتعابير الوجه، وما منا من أحد إلا وقد مرَّ بشخص تسبب له في الحزن أو الألم المعنوي، فإياكم وإياكم وكسر الخواطر وحقن الأذى، فإن القلوب تُدمَى بالكلمات الجارحة، والنفوس تكسرها المواقف القاسية، وكم من الناس أدمت قلوبهم كلمات جارحة من قريب أو عزيز! ولكم يخسر الإنسان من أصدقاء ومحبين بكلمات قلائل! تَضِيع بها عشرة السنين، وتذهب بمودة الأحبة، تلك المودة التي أتت بعد سنين من العطاء والبر، فتراها تذهب بسهولة لكلمة جارحة، أو موقف مؤلم، والإنسان بشر من لحم ودم، وله قلب ينبض بالمشاعر المختلفة التي قد تتبدل من الحب والود والعطف إلى البغض والمقت والكراهية، هذه المشاعر التي تختلف باختلاف أحوال الناس، وتتولد وتتضح مع مرور الوقت والأحداث، حين يُظهر الزمن معادنَ الناس ومشاعرَهم الحقيقية نحو الآخرين، ولما كان ديننا الحنيف ينهى عن إيذاء الناس، فحريٌّ بنا نحن كأمة مسلمة أن نحرص على تجنب كل ما يحزن الغير، ونتخير الكلمات اللطيفة عند خطابنا مع الناس، ومع ذلك نجد أن هذا الجانب مُهمَل من كثير من الناس، ولا يعتبرون الكلمات الجارحة ذنبًا أو شيئًا معيبًا يجب تجنبه، بل وربما نجد الأمر حتى من رواد المساجد ومن يهتمون بأمور الدين؛ فقد نسيَ هؤلاء أو تناسَوا أن التخلُّقَ بخُلُقِ النبي صلى الله عليه وسلم جزء لا يتجزأ من الدين، ونحن مأمورون به من كبيرنا إلى صغيرنا؛ فقد قال تعالى واصفًا أخلاقه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، وأمَرَنا باتباعه في قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: 31]، وكان صلى الله عليه وسلم حليمًا ورحيمًا بأمته؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما بُعثتُ لأُتمم صالح الأخلاق))، وجاء في الحديث الشريف: ((قيل: يا رسول الله، ادْعُ على المشركين، قال: إني لم أُبعثْ لعَّانًا، وإنما بُعثت رحمة))[1]، ولم نسمع عنه صلى الله عليه وسلم أنه نَهَرَ شخصًا، أو آذى كبيرًا أو صغيرًا بقول أو فعل، بل كان ودودًا لطيفًا مع الجميع حتى مع نسائه؛ فلم يضرب واحدة منهم أو يكسر خاطرها، وكانت أخلاقه كريمة حتى مع غير المسلمين؛ فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أن غلامًا يهوديًّا كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، فمرِض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يَعُوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه، فقال: أطِعْ أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار))[2]، فهو أمير المؤمنين وقائدهم، ومع ذلك لم يتكبر أو يأنف من زيارة صبي في مرضه، ناهيك عن أن يكون الصبي يهوديًّا، ولم يؤذِهِ أو يلعنه أو يقل له: أنت من أهل النار، ولم يقلل من شأنه أو شأن أبيه أو يحقره، بل زاره في مرضه ودعاه للإسلام، وفرِح بنطقه الشهادة، وجبر خاطره وخاطر أبيه، فيا له من طيبٍ، رقيق القلب وكريم كرمًا يفوق التصور، أين نحن من هذه الأخلاق العالية الرفيعة؟! هل تواضع أحدنا وزار مريضًا يصغرنا بسنوات؟ هل فرحنا للغير بخير حدث له؟! هل طبَّبنا يومًا على رجل عجوز، أو أم مكلومة، أو فقير معدم، أو ضعيف مهان؟ هل نسينا الألقاب وتواضعنا للخلق، وجبرنا خواطرهم بكلمات طيبة ووجه مبتسم؟ للأسف لا نرى هذا في مجتمعاتنا إلا ما ندر، وما ذلك إلا لانتشار الكبر والعنصرية بين الناس، وسيطرة الطبقية في مجتمعاتنا، فالكِبْرُ هو آفة هذا العصر، وهو تلك الخصلة الذميمة التي حذَّر منها نبينا الكريم، وبيَّن أن صاحبها لا يدخل الجنة والعياذ بالله؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة رجل في قلبه مثقال ذرة من كِبرٍ، ولا يدخل النار رجل في قلبه مثقال ذرة من إيمان))[3]، وهو أكثر سبب يؤدي لكسر الخواطر، ولا شك أن الإنسان أحيانًا تضطره الظروف للتراجع عن مساعدة الغير ومواجهتهم بالصدِّ، ولكن لا يمنع ذلك من أن يكون الصد بتلطُّفٍ، ودون تجريح أو إيذاء بالكلمة أو الفعل أو حتى نبرة الصوت ولغة الجسد، فهذه لغات يفهمها البشر جميعًا، ويتواصلون بها، ويمكن للإنسان أن يؤذِيَ بها غيره أكثر حتى من بطش اليد وضرب النعال، وبالتبرير الصادق المبسط بكلمات طيبة ولينة يفهم الغير، ويقدِّرون ظروف الإنسان ويعذرونه دون أن يتأذَّوا، فهلا يحاسب كل منا على ما تتفوه به شفاهه، ولينتبه الإنسان إلى أن الكلمة التي تخرج من فمه لا يمكن أن تعود إليه، بل تبقى في الخارج، يدور صداها في رؤوس السامعين، ويتكرر أذاها كلما دار ذكرها.
كسر الخواطر من منظور مقاصد القرآن الكريم:
• كسر الخواطر فيه إيلام للآخرين، وإيذاء معنوي لهم، وهو يتعارض مع مقصد تهذيب الأخلاق، وأذى الآخرين محرم بالكتاب والسنة يتناقض مع مقصد التشريع.
• كسر الخواطر ينشر الحقد والكراهية بين الناس، ويتناقض مع صلاح الأحوال الفردية والجماعية، كما أنها قد تؤدي إلى انتشار الجرائم في المجتمع؛ مما يتناقض مع مقصد التشريع والأحكام الإسلامية.
• كسر الخواطر يؤدي إلى تفكك المجتمع ويتناقض مع مقصد سياسة الأمة.
• كسر الخواطر كثيرًا ما يؤدي إلى الشِّجار الذي قد يصل إلى إزهاق الأرواح، وضياع الدين والمال والأبناء، مما يناقض المقصد العام للشريعة، وذلك بحفظ الضروريات الخمس؛ وهي النفس، والمال، والدين، والعقل، والنسل.
التوصيات المقترحة:
• على الإنسان تجنُّب جرح الناس وإيذائهم بقدر الإمكان، سواء باللسان، أو اليد، أو حتى النظرات والتعابير؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقُلْ خيرًا أو ليسكت))[4]، وفي هذا توجيه مبتكر يقلل من فرص الجدال، ومداخل الشجار بين الناس؛ ولنذكر الأثر القائل: (كما تدين تدان)[5]؛ فهو كثيرًا ما يحدث في أرض الواقع، فكما يعامل المرء الناس يعاملونه، ولا يحب الناس من يقسو أو يشتد عليهم في المعاملة واللفظ.
• علينا بطيب القول ومعاملة الناس بخلق حسن، وإحسان عشرتهم، وتخير الكلمات الطيبة عند مخاطبتهم؛ كما وصانا النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((اتَّقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالِقِ الناس بخُلُقٍ حسن))[6]، وقال تعالى: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10]، فطِيبُ الكلِمِ من خير ما يتحلى به المرء، ويرفع قدره عند الله وعند الناس، ويكسبه السعادة ومحبة الآخرين.
• الصبر على أذى الناس، وعدم التسرع في اتخاذ الأحكام، والإعراض عن الجاهلين؛ فكثيرًا ما ينتج عن التسرع في الحكم على الناس الندم والخسارة.
• يجب احترام الآخرين، والرفق بهم، ورحمتهم، خاصة الصغار والضِّعاف، والفقراء والأيتام والعَجَزة، ويجب التلطف بكبار السن، فهم بحاجة للعون والصبر، ولا ننسى أن جميلهم على أعناقنا ما حيينا، وكذا الإحسان للأهل والنساء والجيران والضيوف والمسلمين عمومًا.
• يجب الاعتذار إذا صدر منا ما سبَّب الأذى للآخرين، وطلب السماح والعفو منهم، ولنتذكر أن حقوق العباد لا تسقط إلا بعفوهم، فتطْيِيبُ خواطرهم في الدنيا أسهل بكثير من عذاب النار في الآخرة، والعياذ بالله، ويمكن تحقيق ذلك بفعل أشياء بسيطة وسهلة؛ مثل: الهدية والزيارة والبر، وبذل المال والكرم والإطعام ونحوه؛ فالإنسان ينسى ويغفر بهذه الأشياء البسيطة، ومعظم الخلق تكفيهم الكلمة الطيبة والابتسامة وطلاقة الوجه، وفي كل هذا صدقات وجمع للحسنات وخير كثير، كما أن فيه نشر للمحبة والوئام بين الناس؛ فقد روى أبو ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تبسُّمُك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجلَ في أرض الضلالة لك صدقة، وإماطتك الأذى والشوك والعَظْمَ عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلوِ أخيك لك صدقة))[7].
نسأل الله أن يرزقنا حسن الخلق، ولين الجانب، ويجعلنا مصدرًا لإسعاد الناس وتطييب خواطرهم، لا لإحزانهم وإيلامهم، وأن يجعلنا هداة مهتدين، محبوبين منه ومن خلقه، ومقبولين في الدنيا والآخرة.
[1] أخرجه مسلم (٢٥٩٩).
[2] أخرجه البخاري (١٣٥٦)، وأبو داود (٣٠٩٥)، والنسائي في السنن الكبرى (٨٥٨٨)، وأحمد (١٣٩٧٧) واللفظ له.
[3] أخرجه مسلم (٩١) مختصرًا، والترمذي (١٩٩٩) مطولًا، وأحمد (٣٩٤٧) واللفظ له.
[4] أخرجه البخاري (٦٠١٨)، ومسلم (٤٧)، وأبو داود (٥١٥٤)، والترمذي (٢٥٠٠)، وأحمد (٩٩٧٠) واللفظ له.
[5] رواه عبدالله بن عمر، وأخرجه القسطلاني في إرشاد الساري (١/١١)، وحكم بأن إسناده ضعيف وله شاهد، وأخرجه ابن عدي في الكامل في الضعفاء (٦/١٥٨)، والديلمي في الفردوس (٢٢.٣) مطولًا.
[6] أخرجه الترمذي (١٩٨٧)، وأحمد (٢١٣٩٢).
[7] أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب (٣٦٥/٣)، وقال: إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما، أخرجه الترمذي (١٩٥٦)، وابن حبان (٥٢٩)، وابن عدي في الكامل في الضعفاء (٢٧٥/٥) باختلاف يسير.